نقلا من كتاب الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الاستراتيجي والتنظيمي
إن الصيرورة التاريخية للحضارة الإسلامية عانت من ضمور خطير في الفقه السياسي والإداري والتنظيمي ، وعدم توازن مزمن بين فقه المبدإ وفقه المنهج . و يرجع هذا الضمور وعدم التوازن إلى أسباب عدة ، نذكر منها :
? جدلية الاكتساب والاستيعاب : فقد كان مستوى اكتساب المنضوين إلى الإسلام أيام الفتوح أوسع من مستوى استيعابهم في الأطر المنظِّمة لمجتمع المؤمنين : كان الإسلام أوسع من الإيمان.
? انهيار الخلافة الراشدة ، وما نتج عنه من تحويل وجهة التدين وحصره في الشؤون الفردية بعدما انهار نظام الجماعة . فالواقع المنحرف له أثره السيئ على الفكر لا محالة .
? الجفاء الذي ساد بين أهل القرآن وأهل السلطان ، نتيجة سيادة الملك العضوض ، وبعده عن مقتضيات الدين ، مما دفع الفقهاء إلى الإعراض عن هذه الجوانب المهمة من فقه التدين .
? أن العقل المسلم فقَدَ مرونته العملية بعد قرون من الانحطاط فتحول العديد من المبادئ الإسلامية إلى أفكار نظرية مجردة : قد تُساق للتمدح بجلال الرسالة الإسلامية ، لكنها لا تُتَّخذ قاعدة منهجية هادية للعمل .
? أن القواعد المنهجية ذاتها ليست على القدر نفسه من البداهة والوضوح اللذيْن نجدهما في القواعد المبدئية . كما أنها ليست مفصولة عن القواعد المبدئية في نصوص الوحي ، فلا بد من استنباط لها في ثنايا النص . وهو أمر يستدعي جهدا نظريا لم يبذله الإسلاميون بعدُ بالقدر الكافي .
? أن القواعد المنهجية - بما هي ارتباط بالواقع التاريخي وتفاعل معه ، وليست تعاملا تجريديا مع النص - لا بد من البحث عنها في ثنايا الحكمة الإنسانية عامة ، طبقا لمقاصد النص الشرعي وغاياته ، لا في حدوده اللفظية فقط ، وهو أمر لا يزال غائبا عن أذهان بعض الإسلاميين .
? النقص الواضح في الوعي التاريخي الذي يمكِّن من الفصل بين الدين والتدين ، بين المبدإ الشرعي وتجسيده التاريخي ، ويسمح بتجريد المبدإ من ملابسات الواقع أيام الرسالة ، من أجل تنزيله على واقع مغاير .
? أسر الأشكال التاريخية : فحتى الذين استنبطوا بعض القواعد المنهجية والتنظيمية من الوحي لم يهتدوا في الغالب إلى التحرر من شكلها التاريخي وطرائق تنزيلها في المجتمعات الإسلامية القديمة ، ولم يستطيعوا تجسيدها في أطر جديدة تتناسب مع المجتمع المعاصر .
? عدم الاستفادة من التراث الإنساني المعاصر في مجال الفكر التنظيمي . فمنهج الدفاع عن الذات الذي انتهجه كثير من الإسلاميين تجاه الحضارة المعاصرة قضى عليهم بالتمحور حول الذات ، والتوجس من استيراد الحكمة الإنسانية من مواطنها .
? تخلف الثقافة السياسية في العالم الإسلامي عموما ، مما جعل بعض الإسلاميين أسرى صور تاريخية بائسة من القيادة . وبذلك تحولت مبادئ الإسلام السياسية الجليلة - كالشورى والأمانة والقوة والعدل والطاعة - إلى شعارات مجردة ، بدلا من أن تكون دليلا عمليا هاديا للمسيرة .
وبذلك يتضح أن الاكتفاء بالنظرات التي يمكن استخلاصها من التجربة التاريخية للمسلمين نوع من التبلد والجمود الذي قضى على الصحوة الإسلامية بالتخلف التنظيمي ،كما يتضح أن تجديد القول في هذا الشأن أمر ضروري ، من خلال التنقيب بين الركام عن أي تجربة رائدة ، أو فكرة مبدعة ، تنير الدرب ، وتمهد الطريق للسائرين . حتى لا تظل الصحوة المباركة تراوح مكانها ، ويظل أعداؤها يتلاعبون بها ، ويوجهون طاقتها حيثما شاءوا .